نيسـان- انوار شحاده
احدى لوحات الفنانة هند الجرمي |
هنا في أحد أحياء العاصمة
عمان ، يختبئ بيت تحت مسجد معروف باسمه ، تفوح من أركانه رائحة الابداع ، لوحات
آسرة باتقانها ، و ألوآن تأخذك الى عالم آخر ، تلجأ اليها بلا وعي ، حاملًا معك
حقيبة كلثومية بألحان سنباطية ، و ريشة ، وأفكار رامبرانتية .. أجل أنه منزل
الفنانة التشكيلية هند الجرمي ، ابنة العلامة المشهور د.ابراهيم الجرمي ، ذلك
الرجل الذي أخذ بيد مبدعته الصغيرة ، و اشترى لها ألوانًا و دفاتر رسم ، لتوصل
الخطوط ببعضها و نتوه نحن في دوامة جمالية بداياتها رائعة كبدايات الحب ، و
نهايتها كأفلاطونيات تبقى بروحها و ان وصلت للختام .
هند ، ياسمينة في
بستان يزدان فيه آلاف الشباب ، الا أن ما يميزها حقًا أنها ياسمينة نبتت في الخريف
، استظلت من فيء العقبات مآ حماها من نيران المستحيل ، و ها هي الآن في ربيعها
العشرين ، و قد حققت ما عجز الكثيرون عن تحقيقه و الوصول اليه .
الدين و الفن
وُلِدت هند في
أسرة متدينة و محافظة الى حد ما ، والدها حافظ و قارئ للقرآن الكريم ، و مقدم لبرامج دينية ، و أمها معلمة في احدى المدارس القاطنة في عمان . لم يكن أهلها
من المتدينيين المتطرفين ، بل كانوا واعيين تمامًا لمدى أهمية دعم موهبة الطفل و مساعدته على تحقيق أحلامه ،
فلم يسيروا ابنتهم يومًا كما أرادوا ، و لم يقتلوا حس الفن فيها ،و اعتبروا ذلك
جريمة بحق الطفل ، و محو لشخصيته. فوالدا هند كانا الداعم الأساسي لموهبتها ، فمن
خلال دفاتر رسم و أقلام تلوين و كلمات تشجيعية
، خلقوا فنانة متميزة .
لم تذكر هند متى بدأت بالرسم ، فكل ما تذكره
أنها كانت ترسم ، لم تعهد أصابعها يوماً بلا قلم
رصاص تتموج من رأسه خيوط حياة ، فمنذ بداية ادراكها لمجريات الأحداث و
سلسلة الوقائع ، شهدت نفسها ترسم الوجوه التي حولها ، فهي مأخوذة حتى الان بالطبيعة
الانسانية ، و تفاصيل الخلق الرباني للجسد و خصوصاُ الوجه و قسماته ، و معالمه
التي تعكس ابداع الخالق .
مشجعات و محبطات
تعتبر المدرسة
بمثابة البيت الثاني للطالب ، فالأم في البيت لها نظير في المدرسة ، تشجع و تغذي مواهب ابنائها بالكلمة الطيبة ،
الا أن الأم لا تستغل أبناءها ، على عكس بعض المعلمات اللاتي لا يمثلن الا أنفسهن
، و اللاتي كنَ مثالا للاستغلال بكل معنى الكلمة ، فقد كنَ يطلبن منها رسم لوحات
لاولادهنَ ، و ادارج اسمائهم تحتها بلا شكر حتى و لا تقدير ، و لأن المعلمة كانت
كالأم ، و لأن الاعتراض جريمة في دساتير المعلمات ، لم تقل هند يوماً لطلباتهن الا
"على الرحب و السعة"! .و كما
وُجدَ الطالح وُجد الصالح ، فبعض المعلمات
ساعدنَ هند ، و قدرن مسؤوليتهن كحاملات رسائل ، و رشحنها لمسابقات مدرسية ، كان
أهمها مسابقة اليونيسيف التي شاركت بها فنانتنا و حصلت على المركز الأول على مستوى
مدارس المملكة.
لوحة للفنانة هند الجرمي تعكس من خلالها معالمها |
الجامعة ..سحابة حملتها نحو الأعالي
كبرت هند ، و كبرت أحلامها معها ، لم تشترك
بمسابقات أخرى غير المدرسية ، و قررت أن تجعل الرسم جزءًا من حياتها الشخصية ،
فكان الرسم يكرس لحظات فرحها و شجنها ، و
اعتبرته وسيلة للتعبير عما بداخلها ، و لم تعتبره غاية عنوانها الشهرة أو النقود
أو غير ذلك ، فبعد انتهائها من مرحلة الثانوية قررت دخول الجامعة الأردنية بتخصص
الفنون التشكيلية ، الذي لم تكن تعلم بوجوده لولا أختها التي كانت طالبة في تلك
الجامعة ، و قبل تجاوزها مرحلة التوجيهي الى كلية الفنون ، و اصطحبت معها أعمالها
الفنية ، وقتئذ أعجبت بأسلوب أساتذتها و طريقة تقييمهم لأعمالها و طلبوا منها أن
تدرس في كليتهم و أن تتخصص في الفنون
التشكيلية ، و أحبت الفكرة التي لم تزر بالها قبل ذاك اليوم ، و شعرت أنها ستجد
نفسها في ذاك المكان . و الآن يراها أساتذتها الجامعيين من أكثر الطلاب المتميزيين
، و يهتموا بها و يشجعونها بشكل كبير ، و يتمنوا أن تنضم الى الهيئة التدريسية بعد
تخرجها لتميزها ، فبكلامهم و أفعالهم سارعوا خطواتها نحو النجاح.
و تفتخر هند بأساتذتها كما يفتخروا بها ، فهي تعتبرهم
كنز لا يفنى ، كما يعتبرونها ، و خصوصاً الفنان عزيز عمورة ، الذي يعتبر من أعظم
مدرسي الفنون على مستوى المملكة.
أوسمة بشرية
هند، ليست
محبوبة من قبل أساتذتها الجامعيين فقط ، فبعد الاستماع الى مديحهم و فخرهم بها ،
قمنا بالاستماع الى زملائها و زميلاتها ، اللذين أثنوا على حسها الفني ، و وصفها
البعض بالمتميزة حقاً و بالعبقرية . و بعد الرجوع قليلاً الى أيام الدراسة
الثانوية ، هطلت غيمة مديح معلمة الفنون لهند آنذاك منال جبر ، بحيث كانت تتوقع
لها مستقبل باهر جداً لعبقريتها في مجال الرسم .
لوحة للفنانة هند الجرمي |
النجاح ثمرة الجهد
لم تكن هند
مخطئة بتقديرها للجامعة الأردنية كمكان تحقق فيه طموحاتها ، فبعد دخولها الجامعة
شاركت بمعرضين مخصصين للطلاب الخريجين ، الا أن تفوقها وابداعها دفع أساتذتها الى
اختيارها لعرض لوحاتها الفنية في جالاري "نبض" في جبل عمان بمعرضيه ، و
قد افتتح الأول الأمير حسن والآخر الأميرة ثروت ، و اعتبر المعرضان متميزان بما
حملاه من لوحات رائعة، مما أعطى دافع كبير للفنانة هند بعد أن تألقت في أول تجربة
لها .
و لها مساهمات تطوعية كتلك التي قامت بها قبل أشهر ، فقد
نثرت لمساتها على جدران مستشفى الفحيص ، ما قد يهدأ نفسية المرضى .
الطموح نبض حتى آخر رمق
لا تخشى هند من
الغد ، فهي واثقة الخطى ، و تعتبر أحد مقومات النجاح هو تجاهل انتقادات الآخرين
غير البناءة و مراقبتهم لخطاها المتثاقلة
في المجال الذي تبدع به ، و هي لم تشعر يوماً أنها ترسم لتحقق غاية محددة بقدر ما
تشعر أنها ترسم لعشقها لذلك الفن و تجذره في أعماقها منذ نعومة أظفارها ، فالتفكير
الكثير في المستقبل يأرقها و يمنعها عن الاستمتاع
بلوحاتها ، و قد يقلل من مدى انجازها ، الا انها - و بعد تجاوزها 3 سنوات
من المرحلة الجامعية - ، تخطط بجدية لاكمال دراستها في ايطاليا ، موطن الفنانين
التكشيليين و الزهرة التي يفوح من أوراقها عبق الابداع.
للفن أجواء "سآحرة"
لا يتطلب الرسم
من هند سوى الاستوديو الهادئ المستلقي في أحد أركان بيتها ، و موسيقى للسنباطي أو
دندنات لبليغ حمدي ، و كلمات لأم كلثوم و صمت ، فتعتبر الموسيقى العربية بالنسبة
الى هند، الملهم الرئيسي للروح ، الموسيقى و الرسم فنان متكالملان لا يمكن فصلهما
، حالهما كحال بقية الفنون ، فالمسرح و السينما و النحت و سائر الفنون الأخرى
تعتبر حلقة واحدة مكملة لبعضها ، و ان لم تجربها شخصياً بأكملها ، الا أنها متابعة
جيدة لها.
و لا تعتبر الموسيقى الملهم الوحيد لهند الجرمي ، بل
هناك فنان يلهمها بتفاصيل لوحاته المرهقة ، و تعتبره عرابها الروحي في الرسم ألا
وهو رامبرانت ، فهي تغرق بتفاصيل لوحاته الجمالية.
محطات ابداع هند الجرمي
تركز هند في
لوحاتها على بؤر الطبيعة الانسانية أكثر من أي شيء آخر ، فهي تعشق رسم الجسد
الانساني و خصوصاً الوجه و قسماته ، و نلحظ
أن قسمات وجهها تحتل جزءاً لا بئس به من لوحاتها، بحيث تستطيع أن ترى هيأتها و
ملامحها المجسدة في فنها ، و قد تجد التطورات الملحوظة على شكلها منذ أن رأته
بالمرآة للمرة الأولى حتى المرة الأخيرة.
و تحب الجرمي فن النحت و تعتبره عالم بحد ذاته ،
و تعتقد أن من يتقنه يتميز بابداعه و رؤيته العميقة لبواطن التفاصيل.
وستبقى حقولنا العربية مزدانة بزهور التوليب و الكادي و الأوركيد ، ليس فقط الياسمين ، لكن علينا ألا ننسى أن تلك الزهور تحتاج الى الرعاية و السقاية لتنمو وتكبر .
No comments:
Post a Comment